سورة الطلاق - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطلاق)


        


{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً}.
الخطاب هنا للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- والمراد به المسلمون جميعا.
فالمسلمون مخاطبون من اللّه سبحانه وتعالى في شخص النبىّ، الذي يتلقّى خطاب اللّه عنهم، لأنه إمامهم وهاديهم، وحامل الدعوة من اللّه إليهم.
وقد خوطب النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- من ربّه، ب قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ}.
وبقوله سبحانه: {يا أيها الرسول} ولم يخاطب باسمه، تكريما له من ربّه، بهذه الملاطفة التي تشير إلى المحبة والقرب من ربّه، الذي يخلع عليه ما يخلع من أوصاف التكريم، ويناديه بها، حتى لكأنها علم عليه وحده.
وقوله تعالى: {إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ} أي إذا لزم الأمر، ولم يكن بدّ من وقوع الفرقة منكم، بين الرجل والمرأة.
وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي فليكن الطلاق في مواجهة الحساب لعدتهن.. أي ليكن هذا الطلاق منظورا فيه العدة.. وذلك بتخيّر الوقت المناسب للطلاق.
فاللام في قوله تعالى {لعدتهن} للتوقيت، أي لوقت استقبال العدة، مثل قولك: انتهيت من هذا الأمر ليلة بقيت من المحرم، أي مستقبلا لهذه الليلة.
وهذا يعنى أن تطلّق المرأة في طهر لم تمس من الرجل فيه، فإذا طلقت في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها.. وهذا- كما يقول الزمخشري: أحسن الطلاق، وأدخله في السنة، وأبعده من الندم.
لأن الرجل إذا طلق المرأة وهى في طهرها، دون أن تدعوه نفسه إليها، كان من المستبعد أن يتوق إليها بعد طلاقها، وبهذا لا يكثر ندمه على فراقها.
وعن إبراهيم النّخعى، أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا يستحبون ألّا يطلقوا أزواجهم للسنة- أي طلاق السنة، وهو أن يكون في طهر لم تمس فيه- كانوا لا يطلقونهن إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك، حتى تنقضى العدة.. وكان ذلك أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا في ثلاثة أطهار.
وقال مالك بن أنس: لا أعدّ طلاق السّنة إلا واحدة.
وكان يكره الثلاث، مجموعة أو متفرقة.
وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقد كرهوا ما زاد على واحدة في طهر واحد، فأمّا مفرقا في الأطهار، فلا.
وعند الشافعي- رضى اللّه عنه- لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنّة، ولا بدعة، وهو- أي الجمع، والتفريق- مباح.
يقول الزمخشري تعقيبا على هذا: فمالك، يراعى في طلاق السّنة، الوحدة والوقت.. وأبو حنيفة، يراعى التفريق والوقت.. والشافعي، يراعى الوقت وحده.
قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي اضبطوا حسابها، وهى أن تكون مستوفية الزمن الذي بينه اللّه سبحانه وتعالى، كما ستبين الآيات بعد ذلك، وذلك في شأن الزوج المدخول بها، وله أن يراجعها قبل انقضاء العدة إذا لم يكن قد طلقها ثلاثا.. ويكون بعد انقضاء العدة في هذه الحال، كأحد الخطّاب، فإن كان قد طلقها ثلاثا، فلا تحل له إلا بعد زواج من غيره وطلاق وانقضاء عدة.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} هو دعوة للرجال خاصة، إلى تقوى اللّه في هذا الموقف، وألا يكون الطلاق عن عدوان، أو انتقام، أو اتباع لشهوة عارضة، أو نزوة طارئة، فإن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- يقول: «إن من أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق».
وقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}.
هو نهى للرجال عن أن يخرجوا مطلقاتهم قبل انقضاء العدة، بل ينبغى أن يمسكوهن في بيت الزوجية، فإنهن زوجات إلى أن تنقضى العدة.
وفى إضافة بيوت الأزواج إلى الزوجات- ما يدخل في شعور كلّ من الرجل والمرأة، أن الزوجية لا تزال قائمة بينهما في أثناء العدة، وأن الزوجة ما زالت في بيتها، بيت الزوجية، وهذا من شأنه أن يجعل المسافة النفسية قريبة بينهما، وأن يكون ذلك داعية إلى إصلاح ذات البين، وإزالة أسباب الفرقة.
فالمرأة في أثناء العدة لا تزال في بيتها، بيت الزوجية، وليست غريبة عنه، وهى بهذا الشعور تتصرف كما كانت تتصرف قبل إيقاع الطلاق عليها.. وهذا مدخل واسع إلى المصافاة، وإصلاح ما بالنفوس.
قوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.
قيل في معنى الفاحشة المبينة هنا أقوال.. منها:
أن يثبت عليها الزنا، فتخرج من بيت الزوجية، لإقامة الحدّ عليها.. أو أنها تمتنع عن زوجها إذا دعاها إلى نفسه، فتعتبر ناشزا، وبهذا يسقط حقها في السكنى والنفقة أثناء العدة.
أو أن تخرج هى من تلقاء نفسها مراغمة لزوجها، فيعتبر هذا خروجا منها عن أمر اللّه، الذي ألزمها فيه الإقامة في بيت الزوجية.
وهذا القول الأخير، هو أقرب الآراء إلى المعنى المراد.
وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
أي هذه أحكام اللّه وحدوده التي أقامها لشريعته، ومن يتعد هذه الحدود ويخرج عنها، فقد ظلم نفسه، لأنه تعرّض لسخط اللّه، وعقابه.
وقوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً}.
أي لا تدرى أيها المطلّق ماذا سيكون في التزامك لحدود اللّه، وإمساكك زوجك في بيت الزوجية، فقد يحدث اللّه أمرا، يجىء على غير ما تتوقع من فراق بينك وبين زوجك، فيصلح اللّه ما بينكما، وبعيد الحياة الزوجية، التي كانت آخذة طريقها إلى الزوال.
قوله تعالى: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ.. ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}.
أي فإذا بلغت المطلقة أجلها، ووافت مشارف العدة، ولم تبق إلا لحظة، ينتهى عندها الأمر، إلى مراجعة، أو طلاق- كان الرجل بالخيار، إما أن يمسك مطلقته بمعروف، أو يفارقها بمعروف، فلا يكون إمساكه لها للضرار والنكاية، ولا يكون فراقها للانتقام والتشفي.. وإنما الذي يقضى به شرع اللّه، أن يكون كلّ من الإمساك، أو الفراق، قائما على العدل، والإحسان، وتجنب البغي والعدوان.. ثم أن يكون هذا، وذاك، بمحضر من شاهدى عدل يشهد ان المراجعة، أو الفراق.. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبى حنيفة، أمّا عند الشافعي، فهو واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة.
وفائدة هذا الإشهاد، هو ألا يقع بينهما التجاحد، ولئلا يموت أحدهما فيدّعى الآخر ثبوت الزوجية ليرث، في حال أنّ الفراق قد تم بينهما.
وقوله تعالى: {ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي ذلك التدبير الذي دبره اللّه سبحانه وتعالى، وتلك الحدود التي رسمها لهذا الأمر، إنما يوعظ به، ويستقيم عليه من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فيحول هذا الإيمان بينه وبين التعدّى على حدود اللّه.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} أي ومن يلتزم حدود اللّه، ويراقب ربه ويخش سلطانه- يجعل له مخرجا مما هو فيه، من معاناة وضيق، وهو في مواجهة هذا الموقف، الذي تتغير فيه حياته.. فإذا اتقى اللّه، ولزم حدوده، اختار له اللّه سبحانه وتعالى الطريق المستقيم، الذي يتبدل فيه حاله من ضيق إلى سعة، ومن همّ إلى فرج، سواء أكان ذلك بإمساك الزوجة أو فراقها، أو في أي أمر من أمور الحياة يعرض له، فإن تقوى اللّه في هذا الأمر، كفيلة بأن تبلغ به مرفأ الأمن والسلام قوله تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.
هو معطوف على قوله تعالى: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}.
وهو واقع في جواب الشرط: {ومن يتق اللّه}.
وقد جاء أحد جوابى الشرط فاصلة للاية.. ثم جاء الجواب الثاني بدءا لآية أخرى.
وهذا الفصل بقوله تعالى: {مَخْرَجاً} ليس لرعاية الفاصلة، كما يذهب إلى ذلك علماء البلاغة وأكثر المفسرين.. فإن كلام اللّه تعالى منزه عن أن تحكمه الضرورات التي تحكم أعمال البشر، من شعر ونثر.
وإن هذا الفصل لهو إعجاز من أعجاز القرآن.. هذا ما ينبغى أن نستيقنه، سواء اهتدينا إلى مواقع هذا الإعجاز، أو لم نهتد إليها.
والذي نقوله- واللّه أعلم- إن قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ} هو شرط يواجه به كل من الزوج والزوجة.. وأما الجوابان، وهما: {يجعل له مخرجا} ثم {ويرزقه من حيث لا يحتسب} فأولهما الزوج، الذي وعده اللّه سبحانه بأن يجعل له مخرجا، إذا هو اتقى اللّه.. وأما الجواب الآخر، فهو الزوجة، التي وعدها اللّه سبحانه، بأن يرزقها من حيث لا تحتسب، ولا تقدّر، إذا هى اتقت اللّه، في موقفها من زوجها في فترة العدة.
وهذا لا يمنع من أن يكون ذلك الشرط، وجواباه، للعموم، بمعنى أن كلّ من اتقى اللّه، يجعل اللّه له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب.. ولكن لمّا كان ذلك في مواجهة الزوجين، المزمعين على الفراق، جاءت الجملة الشرطية ضابطة لحالهما فأعطت كلّا منهما ما يناسبه.. ثم كان منها هذا الشمول الذي يسع الناس جميعا.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}: شرط وجواب، يدخل فيه كلّ من الزوج والزوجة، كما يدخل في حيّزه الناس جميعا.. فمن يتوكل على اللّه، ويسلم أمره إليه، فاللّه حسبه، وكافيه، ومدبّر أمره.. يقول الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه: «من انقطع إلى اللّه كفاه اللّه كلّ مؤونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله اللّه إليها».
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ}.
أي أنه سبحانه هو المالك المتصرف في هذا الوجود، وأن كلّ شيء بيده، خاضع لمشيئته، مستجيب لإرادته، وما يريده سبحانه فهو واقع لا محالة، دون أن يعوّقه معوّق، أو يغيره أحد.
وقوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.
أي أن كل شيء في هذا الوجود، هو بتدبير وتقدير من اللّه سبحانه، وليس هناك من شيء يجىء عفوا، أو يقع مصادفة واتفاقا.. كما يقول سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} [8: الرعد].
قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} في هذه الآية بيان للعدة التي تعتدها المطلقات من النساء، وهى تختلف باختلاف أحوالهن.
فذوات الحيض، عدتهن ثلاثة قروء، كما يقول سبحانه: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [228: البقرة] والقرء: يطلق على الطهر والحيض.. فتعتد ذات الحيض ثلاث حيضات، تطهر فيهن ثلاث مرات.
وأما اللائي يئسن من المحيض، وهنّ اللائي بلغن سنّ اليأس، حتى انقطع الحيض عنهن.. فهؤلاء عدتّهن ثلاثة أشهر.
وأما اللاتي لم يحضن أصلا، لصغرهن، أو لأنهن من الممتدات الطهر أبدا، فلا يحضن- هؤلاء عدتهن ثلاثة أشهر كذلك.. وأما ذوات الحمل، فعدتهن وضع حملهنّ.
وأمّا قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} فهو اعتراض بين المبتدأ والخبر، للإشارة إلى الحال الداعية إلى هذا الحكم الذي تضمنته الجملة، وهو أن يكون ذلك عن شك وارتياب، في حال المرأة التي بلغت السنّ الميئوس فيها من الحيض، ثم ترى الدم، لا تدرى إن كان دم حيض، أو استحاضة.. فهذه عدتها ثلاثة أشهر، أي أنها تعتد بالأشهر، ولا تعتد بالقروء.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}.
أي من يلتزم حدود اللّه، فيما أمر ونهى، جعل اللّه له يسرا في كل أمر يعالجه، فإنه من هدى اللّه على نور من ربه، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.
(40: النور) قوله تعالى: {ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أي هذه الأحكام التي بيّنها اللّه سبحانه في هذه الآيات، هى أمر من اللّه سبحانه وتعالى، يجب الوفاء به، حيث يحاسب المقصّر، ويجازى المطيع.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}.
هو دعوة عامة إلى تقوى اللّه والتزام حدوده.. وأن من يتق اللّه يكفر اللّه عنه سيئاته، بما فعل من إحسان كما يقول سبحانه: {إن الحسنات يذهبن السيئات} {ويعظم له أجرا} أي ويضاعف له الثواب.
قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى}.
هذا في حكم المطلقات طلاقا بائنا، أما من طلقن طلاقا رجعيا، فقد جاء حكمهن في قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.
فالمطلقة طلاقا بائنا، لها- إلى أن تنقضى عدّتها- السكنى، خارج بيت الزوجية، ولا نفقة لها ولا كسوة، ولا يتوارثان.. وأما إن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن، حتى تضع حملها، وبذلك تنقضى عدتها.. كما يفهم من قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فدل ذلك على أن النفقة واجبة للمطلقة طلاقا بائنا، إذا كانت حاملا، أما غير الحامل فقد جاء الأمر بسكناها دون النفقة عليها.
هذا، وقد اختلف في النفقة للمطلقة ثلاثا قبل انقضاء عدتها، فقال أكثر العلماء، لها السكنى ولا نفقة لها، وقال آخرون، لها السكنى والنفقة، لأنها محبوسة على الرجل لحقّه عليها، حتى تنقضى عدتها، فاستحقت النفقة كالزوجة.
وهذا رأى أبى حنيفة، استنادا إلى قوله تعالى: {وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}، وترك النفقة من أكبر الأضرار.
ونحن نميل إلى هذا الرأى القائل بوجوب النفقة للمطلقة طلاقا بائنا، وذلك أولا: أن الأمر بإسكانهن، من غير نفقة عليهن، أشبه بالحبس، بل إنه الحبس خير منه، لأن المحبوس في جريمة، يقدم له الطعام والشراب! وثانيا: لا يتفق مع روح الشريعة السمحاء أن تلقى بالمرأة بعد الطلاق، في هذا السكن المهجور، الذي لا يصحبها فيه إلا ما تحمل من هموم وأحزان، وإلا ما تمضغ من مرارة هذه المصيبة التي حلت بها، وقد أخرجتها من بيتها، ثم تضنّ عليها هذه الشريعة بشىء من العزاء، وهو ما يقدم لها من نفقة، في فترة هذا السجن الانفرادى!؟
وثالثا: ما جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
ليس فيه ما يحجب عن غير الحامل حقّها في الإنفاق عليها، وإنما جاء ذلك ليرفع عن أولات الحمل ما قد يوهم بأن لا نفقة لهن إلا في حدود ما ينفق على غير دوات الحمل، زمنا، وقدرا، بمعنى أن ينفق على ذوات الحمل في حدود ثلاثة أشهر، أي بمقدار ما ينفق على غير الحامل.. فجاء قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} جاء رافعا لهذا الوهم من جانبيه جميعا.. فينفق على ذات الحمل حتى تضع حملها، ثم ينفق عليها قدرا مراعى فيه حالة الحمل الذي تحمله، بحيث يكفل لها الغذاء المناسب لحالها وحال الطفل الذي يغتذى منها.. فالنفقة على ذات الحمل تختلف عن النفقة على غير الحامل وقوله تعالى: {مِنْ وُجْدِكُمْ} أي مما تجدون بين أيديكم، أي مما هو موجود ومتاح لكم.
وقوله تعالى: {وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} هو خطاب للأزواج بأن يلتزموا حدود اللّه، مع مطلقاتهن، اللاتي أمسكوا بهن في بيوتهم، وألا يسلطوا عليهن من الكيد والضر ما يحملهن على ترك ما لهن من حقوق على أزواجهن.
وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} هو أمر للأزواج بأن يقوموا بأداء النفقة المناسبة لمطلقاتهم، إذا هن قمن بإرضاع ما ولدن لهم من أولاد.
وسمّى ما يقدم للمطلقة من نفقة على الرضيع أجرا، إشارة إلى أن الأب هو المتكفل بالإنفاق على الولد دون الأم، وأن الأم- مع وجود الأب- تعتبر كالأجنبية في حال طلاقها، ومن هنا كان استحقاقها للأجر، لأنه في مقابل عمل للأب، تستوفى عليه الأجر منه.
والائتمار بالمعروف، هومداولة الأمر بين الرجل ومطلقته، بالمعروف، واللطف، وذلك للاتفاق على ما فيه مصلحة الرضيع.. فليذكر كل منهما أن الأمر الذي يتداولانه بينهما، هو خاص بولدهما معا، وأن من مصلحة الوليد أن تجتمع عليه عواطف الأبوة والأمومة معا، وألا يكون انفصال الأبوين سببا في حرمانه من هذه العاطفة، من أحدهما، أو كليهما.
إذ لا ذنب له فيما حدث بينهما من خلاف أدى إلى هذه الفرقة.. فليذكر الأبوان هذا، وليذكرا أيضا أنهما إذا فاتهما أن يعملا بقوله تعالى: {أو تسريح بإحسان} أو قوله سبحانه: {ولا تنسوا الفضل بينكم} فلا يفوتهما أن يستقيما على حدود قوله سبحانه: {وأتمروا بينكم بمعروف} وأنه إذا كان قد وقع من أحدهما أو كليهما خروج على حدود اللّه في الفرقة التي وقعت بينهما، فإنه ينبغى ألا يضاعف هذا العدوان بعدوان آخر على حدود اللّه، بظلم هذا الوليد، الوافد من عند اللّه، ضيفا عليهما.
وقوله تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} أي أنه إذا لم يقع بين الرجل ومطلقته اتفاق على أن تقوم الأم بإرضاع الولد، سواء أكان ذلك التعاسر والتشاد من جهة الأب، أو من جهه الأم، فإن الوليد يجب أن يكفل له حقه، وأن تحفظ عليه حياته، وذلك بأن يجد له الأب مرضعا أخرى غير أمه.. فإن لم يكن ذلك ميسورا، أو لم يقبل الطفل ثديا غير ثدى أمه، ألزمت الأم بإرضاع طفلها، وألزم الأب بأداء النفقة، أو الأجر، المناسب للأم.
وفى إسناد التعاسر إلى الأبوين، وإن كان ذلك من أحد الطرفين، للإشارة إلى أن هذا التعاسر الذي وقع، هو محسوب عليها معا.. لأنه إذا كان التعنت والتشدد من أحدهما، فإنه كان من الممكن- لو تلطف الطرف الآخر، وحاسن ولم يلق التعنت بالتعنت- كان من الممكن أن يتم الاتفاق ويقع التياسر بينهما.. ولهذا فهما شريكان في التعاسر الذي يقع بينهما.
قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}.
هو أمر بالنفقة الواجبة على الوالد لزوجه وولده، وأنها إنما تكون في حدود طاقته، في حال يسره، أو عسره، غير منظور في هذه النفقة إلى حال الأم، في يسر أو عسر.
وقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ} أي ومن ضيّق عليه في رزقه، فإنه لا يعفى من النفقة على طفله، وإنما عليه أن ينفق مما هو متاح له، وإن كان قليلا.. فإنه هو المسئول عن أمر هذا الطفل، ولن يرفع عنه عبء هذه المسئولية بحال أبدا.. فكما هو عامل بكل وسعه على الإنفاق على نفسه وحفظ حياته من التلف، كذلك يجب أن يعمل بما في وسعه على الإنفاق على هذا الوليد الذي هو بعض منه.
وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها} هو رفع الحرج، ودفع للمشقة التي قد يحمل عليها الأب في سبيل الإبقاء على ولده، وأنه إذا كان المطلوب من الأب شرعا وطبعا أن ينفق على ولده، فإن ذلك إنما يكون في حدود الطاقة، وعلى قدر الإمكان.. {لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}.
فالولد نعمة، لا ينبغى أن تكون نقمة يشقى بها أىّ من الأب أو الأم.
وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً..} هو وعد من اللّه سبحانه للمضيّق عليهم في الرزق، يأن هذا الضيق إلى سعة، وإن هذا العسر إلى يسر، فليتحمل الأب هذا الضيق، وألا يضيق به، ثم ألا يحمله الضيق على أن يلتوى في سلوكه إزاء الإنفاق على ولده الرضيع، أو يتحلل من هذا الواجب المفروض عليه.


{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً}.
مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي قبلها، هى أن الآيات السابقة قد رسمت حدودا أقامها اللّه سبحانه وتعالى العلاقة بين الزوجين، وما قد يعرض لهذه العلاقة من عوارض تنتهى إلى الفرقة بينهما، وقد توعّد اللّه سبحانه الذي يتعدّى هذه الحدود من الزوجين.
وهنا في قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها.. الآية} عرض لمن يتعدّون حدود اللّه عامة، وما يأخذهم اللّه به من بلاء ونكال في الدنيا، ومن عذاب شديد منكر في الآخرة.
وفى هذا العرض، يرى كلّ من الزوجين أنهما إذا خرجا عن حدود اللّه، فلن يفلتا من سلطانه، ولن ينجوا من حسابه وعقابه، لأن أيّا منهما مهما بلغ من جاهه وسلطانه، فلن يكون أقوى من أية قرية من تلك القرى التي اغترت بقوتها، وبسطة الرزق لها، فعتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبها اللّه حسابا شديدا، وعذبها عذابا نكرا.
وكاين: بمعنى {كم} الخبرية التي تفيد التكثير، أي وكم من القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبها اللّه حسابا شديدا، وعذبها عذابا نكرا؟
فما أكثر هذه القرى التي وقعت تحت هذا الحكم.
وعتت: من العتو، وهو التطاول بالبغي والعدوان، والتمرد والعصيان، عن استعلاء وتكبر.. والنكر: الشديد الأليم.
قوله تعالى: {فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً}.
أي أن هذه القرية- ومثلها كثير من القرى الظالمة العاتية- قد ذاقت عاقبة أمرها الوبيل، وتجرعت كئوس العذاب، فكانت نهايتها الخسران المبين في الدنيا حيث دمر اللّه عليها وعلى أهلها.
قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً.. فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً}.
أي، وإذا كان مصير هذه القرى العاتية الظالمة، هو الخراب والدمار في الدنيا، فإن ذلك ليس هو نهاية مطافها، وإنما هناك عذاب الآخرة الذي أعده اللّه لأهلها، وهو عذاب شديد، لا يقاس به ما حلّ بهم من عذاب في الدنيا.
وفى الحديث عن القرية في قوله تعالى: {فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً} ثم الحديث عن أهلها في قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ..}.
فى هذا تفرقة بين حالين: فالحال الأولى في الدنيا، حيث تشهد القرية مصارع أهلها، وحيث يشملها من الخراب والدمار ما يجعلها بعضا من هؤلاء القوم الذين وقع بهم عذاب اللّه. ولهذا جاء الحديث عن القرية.
أما الحال الثانية، التي تتحدث فيها الآيات عن القوم، فهى عن حالهم في الآخرة، حيث لا قرى لهم، وحيث يلقون العذاب ولا شيء معهم مما كان لهم في الدنيا من مال، ومتاع، وديار، ولهذا جاء الحديث عن أهل هذه القرية.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ}.
هو إلفات لأهل العقول وأصحاب البصائر، أن يكون لهم مزدجر، من هذا الذي حلّ بالظالمين، المعتدين، من نقم اللّه، في الدنيا، ومن العذاب الشديد في الآخرة، وأن يتقوا اللّه، ويلتزموا حدوده، حتى لا يحلّ بهم ما حلّ بالظالمين من قبلهم.
وإنما خوطب أولو الألباب، لأنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بهذا الخطاب، وأن يكون لهم من عقولهم داع يدعوهم إلى الاعتبار، وإلى تلقّى العظة مما وقع لغيرهم، قبل أن ينزل بهم.. فالعاقل من اتعظ بغيره، قبل أن يكون هو عظة لغيره.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا} هو بدل من قوله تعالى: {يا أُولِي الْأَلْبابِ} أو صفة لأولى الألباب، أي فاتقوا اللّه أيها العقلاء المؤمنون.. فإن الذين آمنوا، إنما آمنوا بما معهم من عقول دلتهم على مواقع الهدى، وأرتهم ما في الإيمان من خير فآمنوا.. أما الذين أمسكوا بكفرهم وضلالهم، فإنهم ليسوا من أصحاب العقول.
{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [44: الفرقان].. ومن تمام الإيمان أن يسلك بصاحبه مسالك الهدى، وأن يقيمه على التقوى.. أما الإيمان- مجرد الإيمان- فإنه إن لم يتحول إلى طاقة من القوى الدافعة إلى السلوك الحميد، والعمل الطيب، كان زرعا بلا ثمر.
وقوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} أي قد أنزل اللّه إليكم ما فيه تذكرة لعقولكم، وهو القرآن الكريم، فانظروا فيه، وتدبروا آياته، وستجدون منه الهدى، والنور.
وقوله تعالى: {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ}.
رسولا، بدل من {ذكرا} في قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} فهذا الذكر الذي أنزله اللّه إليكم، يتمثل في هذا الرسول الذي يتلو عليكم آيات اللّه البينات الكاشفات لطريق الحق، والهدى.
وفى تسليط الفعل {أنزل} على الذكر، الذي هو القرآن، ثم على الرسول الذي يتلو آيات اللّه- في هذا إشارة إلى مقام الرسول الكريم، وأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- أشبه بآية من آيات اللّه المنزلة من السماء، وأنه منزل إليهم من عند اللّه، كما تتنزل عليهم آياته.. وهذا يعنى أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو في ذاته مصدر هدى، ومطلع رحمة ونور، وأنّ من عجز عن أن يدرك ما في آيات اللّه من حق وخير، يستطيع أن يرى تأويل آيات اللّه في رسول اللّه.. فهو صلوات اللّه وسلامه عليه- كتاب اللّه المنظور، على حين أن القرآن هو كتاب اللّه المسموع.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً} [45، 46 الأحزاب].. فهو صلوات اللّه وسلامه عليه- سراج منير مرسل من عند اللّه، كما أن القرآن الكريم {كِتابٌ مُبِينٌ} منزل من عند اللّه.
وقوله تعالى: {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}.
هو بيان لمطالع الهدى من رسول اللّه، ومن كتاب اللّه الذي بين يديه، وأن هذه المطالع إنما تطلع على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنهم هم الذين يستضيئون بهذا الهدى، فيخرجون من دائرة الظلام إلى حيث يكون النور.. أما الذين كفروا، فهم في عمى، وفى ضلال، كما يقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} [44: فصلت].
قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً.. قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً}.
هذا وعد من اللّه سبحانه وتعالى لمن آمن باللّه وعمل صالحا، وانتفع بهذا النور الذي أنزله اللّه- بأن يدخله اللّه جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدا فيها، لا يتحول عنها أبدا، حيث يرزق رزقا حسنا من فضل اللّه وإحسانه، في هذه الجنات التي ينعم فيها بما شاء من نعيم لا يحيط به وصف.
وفى إسناد الإيمان والعمل الصالح ودخول الجنة، والرزق الحسن فيها- في إسناد هذه الأفعال إلى ضمير المفرد: {يؤمن باللّه ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار} {قد أحسن اللّه له رزقا} في هذا إشارة إلى أن هذه الأفعال، إنما هى من شأن الإنسان نفسه، وجزاؤها واقع عليه وحده.
فالإيمان، والعمل الصالح، مطلوبان من الإنسان، كإنسان له وجود ذاتى، يناط به التكليف، وتقع عليه آثار أعماله من حسن أو سيء.
ودخول الجنة، والرزق الحسن فيها، هو الجزاء الذي يتلقاه المؤمن جزاء إيمانه وعمله الصالح.
أما إسناد الخلود في الجنة إلى جماعة المؤمنين الذين أدخلهم اللّه الجنة مع هذا المؤمن، فذلك لأنهم جميعا شركاء في هذا الخلود.. فكلهم خالد في هذه الجنات، وإن اختلفت منازلهم فيها بحسب أعمالهم.. فهم في المنازل على أحوال مختلفة، كلّ في منزلته، وإن كانوا في الخلود على سواء.
ثم إن الخلود في الجنة يوحى بثقل هذا الزمن الذي لا ينتهى، وخاصة إذا كان المرء وحده، في عزلة داخل زمن لا حدود له.. فإذا كان هذا الخلود مع مشاركة لأعداد من الناس لا حصر لها، كان ذلك الخلود سائغا، بل ومطلوبا، حيث يأنس الناس بالناس- وفى هذا يقول المعرى:
ولو أنّى حبيت الخلد وحدي *** لما أحببت في الخلد انفرادا
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}.
هو عرض لقدرة اللّه، وبسطة سلطانه، على هذا الوجود، وأنه سبحانه خلق سبع سموات، وخلق من الأرض سبع أرضين.
وليست المثلية التي بين السموات، والأرض مثليّة في القدر، والحجم، وإنما هى مثلية في التنوع والاختلاف، فكما أن لكل سماء نظاما، مختلفا عن الأخريات، كمّا وكيفا، كذلك لكل إقليم من أقاليم الأرض، أو كل طبقة من طبقاتها، نظام، يختلف عما سواه، قدرا، وكيفا.
ومن النظر في خلق السموات والأرض، يتبين ما للّه سبحانه وتعالى من قدرة، وماله سبحانه، من علم قائم على هذه العوالم، يضبطها، ويدبّر أمرها.
ومن علم هذا، علم أنه- كإنسان مخلوق للّه- لا يخرج عن سلطان اللّه، ولا يغيب عن علم اللّه شيء مما عمل، وأنه محاسب على ما يعمل من خير أو شر، فليتق اللّه، وليعمل صالحا، حتى لا يقع تحت غضب اللّه، وينزل منازل الهلكى، من الضالين المكذبين بآيات اللّه، ورسل اللّه..